الجمعة، ديسمبر 05، 2014

حقل النقطة صفر...


حقل النقطة صفر”: المرتكزات النظريّة لعلم الوعي
طوني صغبيني
الأبحاث التي تدرس الوعي البشري تُسمّى عادة بالانكليزية Noetic Science، الترجمة العربية الأقرب لتلك الكلمة قد تكون “علم الوعي” أو “علم المعرفة الداخلية” بما أن الكلمة اليونانية الأصلية Noetic تعني “الحدس” أو “المعرفة الداخلية”. هذا النوع من الأبحاث ينطلق من افتراض أن الذهن قادر، بمفرده، على التأثير على العالم الفيزيائي المادّي وعلى الحصول على معلومات خارجية عبر “حواس” أخرى غير الحواس البيولوجية الخمسة.
الفرضيات التي ينطلق منها “علم الوعي” تتناغم مع العديد من نظريات فيزياء الكوانتوم التي تدرس الوجود على المستوى ما-دون-الذرّي. فيزيائيو الكوانتوم خرجوا منذ عشر سنوات حتى اليوم بالعديد من النظريات التي تستطيع قلب نظرتنا إلى العالم رأساً على عقب. وبما أنه لا يوجد مجال هنا للتوسّع في نظريات الكوانتوم، نورد في ما يلي أهم خلاصاتها بتعابير مبسّطة قدر المستطاع. تقول خلاصات نظريات الكوانتوم ما يلي:
المادة على المستويات ما-دون-الذرّية ليست في الواقع “مادّة”؛ أقرب وصف لها هو أنها “موجة”، أو “وتر” إن كنّا من مؤيدي نظرية الأوتار الفائقة.
المادة وفقاً لنظرية الكوانتوم، ليست ثابتة، فهي تتغيّر باستمرار على المستوى الكوانتومي (ما-دون-الذرّي) وتتغيّر ذبذباتها باستمرار.
بعض المكوّنات المادّية على المستوى الـ ما-دون-الذرّي يمكن أن تخلق من “العدم”، كما يمكن نظرياً لهذه المكونات أن تختفي كما ظهرت.
وفقاً للافتراضين الأخيرين، يمكن للمادة، قبل ظهورها كمادة، أن تكون موجودة “كإمكانية صافية” موجود في “عقل الحقل الكوانتومي” (المزيد حول هذا الأمر في الأسفل).
المادة نفسها، يمكن أن تكون موجودة في مكانين وزمانين مختلفين في الوقت نفسه[1].
المادة على المستوى الكوني، والتي تبدو كأنها مجموعات منفصلة من الأجرام، هي متشابكة ومترابطة في الواقع[2].
على المستوى الكوانتومي ما-دون-الذرّي. الحالة الكميّة (الكوانتومية لتسهيل اللغة) لأي شيء أو أي منظومة قد تكون مرتبطة أو قابلة للتأثر أو التأثير على، شيء أو منظومة أخرى، حتى ولو لم يكن هذان الشيئان-المنظومتان تمتلكان أي رابط مادي وفقاً للفيزياء التقليدية.
حسناً، الجمل السابقة قد تكون معقّدة قليلاً، فلنحاول أن نبسّطها سوية.

...
الاكتشاف الأهم في حقل الكوانتوم يتمثّل في تعليمنا أن الحدود بين المادة والطاقة هي أرقّ بكثير مما كنا نعتقد سابقاً، فلا يوجد شيء في الوجود “مادّي” فقط؛ كل شيء في الكون يتألف من نفس المكوّنات الصغيرة، التي تشكّل أجسام مادية مختلفة بحسب اختلاف ذبذباتها وموجاتها وتفاعلاتها على المستوى ما-دون-الذرّي. كل القوانين التي كنا نعتقد أنها تحكم المادة في الفيزياء التقليدية لا تنفعنا كثيراً على المستوى ما-دون الذرّي الذي يشكّل أساس كل العالم المادّي. بعض النتائج العامّة لنظريات الكوانتوم تتمثّل بثلاث أمور:
كل الوجود مكوّن على المستوى ما دون-الكمّي من نفس الجوهر\الطبيعة[3]: الاسم العلمي لهذا الجوهر الفائق الصغر هو “الوتر” String. هذا يعني أن الإنسان والشجرة والنجمة البعيدة هم من نفس الجوهر الذي يكوّن كل شيء وكل الكون.
إن قلب الوجود، على المستوى ما-دون الكمّي، هو منظّم، مترابط ومتشابك، يؤثر ويتأثر ببعضه بعضاً على مستويات أكثر جوهرية بكثير مما كنّا نعتقد سابقاً (هذا ما يفسّر قدرة ذرات بعيدة على التأثير على ذرّات أخرى في مكان آخر من دون رابط مادي مرئي بينهما)[4].
هذا الجوهر الموحّد للوجود، المترابط ببعضه البعض، يعني أنه هنالك على المستويات ما-دون-دون-الذرّية (أبعد بعد من المستوى الكوانتومي) حقل موحّد تحصل فيه كل عمليات التبادل الطاقوي والترابط بين الذرات، ونحن نتحدّث هنا عن كل العمليّات التي تحصل في الوجود من التبادل البسيط لشحنات الكهرباء بين الأنوية وصولاً إلى كل عمليات “خلق” و”موت” للمادة (مثل ولادة نجمة، أو حتى إنسان). هذا الحقل، الذي ينبع منه الوجود، هو حقل خلّاق بالضرورة، موحّد، لانهائي وموجود في خلفيّة كل شيء من دون أي استثناء على الإطلاق، بالتعابير “الدينية”، إنه بالفعل حقل كلّي القدرة وكلّي الوجود. بعض الفيزيائيين يصفونه بأنه “حقل ذكي” أو “حقل واعي” لأنه ينتج كل القوانين التي تنظّم وتسيّر الكون. أب نظريات الكوانتوم، الفيزيائي ماكس بلانك (1858 – 1947) يقول:
كل المادة تنبع من، وتُوجد، بفضل قوّة. علينا أن نفترض أنه وراء هذه القوّة هنالك عقل واعي وذكي. هذا العقل هو نسيج (ماتريكس) كل المادّة”.
الاستدلالات الميتافيزيقية من نظريات الكوانتوم تكاد تكون صارخة: إنها تشير بطريقة أو بأخرى، إلى أن الكون موحّد ومنظّم ومتشابك عبر جوهر خلّاق موجود في كلّ شيء. هذه الخلاصة قريبة جداً من عقيدة مدارس الحكمة القديمة والأديان التي تندرج ضمن إطار وحدة الوجود، والتي كانت تعتبر، بالإضافة إلى أن “الواحد هو الكلّ والكلّ هو واحد”، أن “المقدّس” (أو الجوهر الخلّاق – أو الله وفقاً للمدارس الصوفية) موجود في الجميع، في كلّ شيء، وفي كل الكون.
فلنعد إلى حديثنا الأوّل عن عن المنطلقات العلمية للأبحاث في علم الوعي. علم الوعي يذهب خطوة أبعد من فيزياء الكوانتوم ليقول أن “الأفكار والنوايا البشرية” هي شكل من أشكال الطاقة المرهفة التي تتبادل التأثير مع هذا الحقل ومع أشكال الطاقة الأخرى وفقاً لقوانين الترابط والتشابك الكوانتومي.
علم الوعي يرى بأن كل شعور، كل فكرة أو نيّة، كما كل شيء آخر في الكون، يحمل تردداً معيناً (ذبذبة أو Frequency) بحسب طبيعتها؛ بالتالي شعور الحبّ، أو التفكير بالسلام مثلاً، وفقاً لعلم الوعي، يولّد كلّ منهما تردّدات مختلفة ويكون لهما تأثيرات مختلفة على المستوى ما-دون-الكمّي. التأثيرات على المستوى ما-دون-الكمّي  تُترجم بدورها إلى نتائج ملموسة على المستوى المادّي. خلاصة علم الوعي تقول بأن مشاعرنا وأفكارنا تؤثر في نهاية المطاف على العالم الفيزيائي عبر “الوسيط” الكوانتومي[5].
مؤلفة كتاب “تجربة النيّة” لين ماك تاغارت تشرح افتراضات علم الوعي بالقول أن “ذرّاتنا تتبادل الطاقة بشكل دائم مع حقل طاقة كوانتومي هائل نُطلق عليه اسم حقل النقطة صفر Zero point field”. بعدها تشرح بأن الوعي يؤثر على هذا الحقل: “المكوّن الأساسي في خلق الكون هو الوعي الذي يشاهده”. وتتابع:
لدينا بعض الأدلة العلميّة التي تقول بأن الوعي هو طاقة عالية الدقّة مع القدرة على تغيير المادة الفيزيائية. إرسال فكرة مركّزة يولّد قدر محسوس من الطاقة. خلال التجارب (التي قامت بها في مختبرات جامعية مرموقة)، حين يرسل شخص ما نيّة معيّنة إلى شخص آخر، العديد من الجوانب في جسد الشخص المتلقّي يتم تفعيلها، كأنه يستقبل صدمة كهربائية صغيرة”[6].
علم الوعي يقوم إذاً على افتراض أن البشر، يملكون من خلال مشاعرهم وأفكارهم ونواياهم، القدرة على المشاركة في خلق (أو تدمير) الكون بالمعنى المادي المباشر. من هذا المنظور، إن وعينا هو بالفعل بوّابتنا نحو آفاق ودروب لم نتخيّلها من قبل. لكن، هل يوجد أدلة علميّة ملموسة أكثر حول هذه المقولات “الجامحة”؟ هذا ما سنتناوله في الحلقة المقبلة.


[1]  وفقاً لنظرية Superposition أو “الأكوان المتوازية”.
[2]  هذا يظهر بشكل خاص في نظرية “التشابك الكوانتومي” Quantum Entanglement
[3]  وفقاً لنظرية الأوتار Strings Theory.
[4] وفقاً لنظرية حقل الكوانتوم Perturbative quantum field theory، “القوى الطبيعية” تنتقل بين الذرات المادية (وتحديداً بين نوايا الكواركز واللبتون)، عبر نوع غير مادي من الذرّات الحاملة للقوى معروف بـ gauge bosons.
[5]  وفقاً لعلم الوعي، كل فكرة تخلق التأثير الذي يتماثل مع “موجتها” الخاصة، أفكار ومشاعر الغضب والحقد مثلاً تؤدي إلى نتائج مادّية تدميرية تعزّز الغضب والحقد مثل الحروب والانهيارات، الأمر نفسه بالنسبة للمشاعر والأفكار الأخرى. لهذا السبب تشدّد الحكمة القديمة على “الذهن والقلب النقي”.
[6]  لين ماك تاغارت، كتاب تجربة النوايا، مترجم مباشرة عن الإنكليزية.

ليست هناك تعليقات: